وهبَ اللهُ الإنسان ثقةً لا حدود لها، وأَوْكلهُ الخَليقة كلّها، وأودع في قلبه كنزًا لا يُقدّر بثمن، ألا وهو الحبّ لأخيه الإنسان، وزرع في ضميره مبادىءَ لتوطيد هذا الحبّ والإهتمام بكلّ ما يحيط به، وأعطاه حريّة الإدراك وحكمة السماء…
ومن قلب هذه الوديعة جاءت “وثيقة الأخوّة الإنسانيّة” التي وقّع عليها كلٌّ من قداسة البابا فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب، “كشهادةٍ حيّةٍ للإيمان بالله الذي يُوَحّد القلوب المتفرّقة ويسمو بالإنسان، وكدعوةٍ للمصالحة والتآخي بين المؤمنين وذوي الإرادة الطيّبة، وكنداءٍ لكلّ ضميرٍ حيٍّمُحبٍّ لمبادىء التسامح والإخاء التي تدعو إليها الأديان وتشجّع عليها“.
هذه الدعوة للتلاقي التي حرّكت قلوبَ الناس بهجةً واندفاعًا وأعطتهم أملاً جديدًا لا تريدُ أن تخبو نارها، لذا لن نتوقّف عن إحيائها لأنّ إيماننا بالسلام والعيش المشترك يُلهبُ قلوبَنا وأفعالنا…
وفي هذا الإطار جاء يوم ١٥ أكتوبر ٢٠١٩، يومًا مشهودًا له، إذ استقبلَ فضيلةُ الشيخ أحمد الطيّب في مقرّه في مشيخة الأزهر في القاهرة وفدًا مؤلّفًا من أكثر من ثلاثين عضوًا من مجلس كنائس مصر، يمثّلون الكنائس المصريّة الخمسة، الكنيسة القبطيّة الأورثوذكسيّة والكنيسة الإنجيليّة والكنيسة الأسقفيّة وكنيسة الروم الأورثوذكس والكنيسة الكاثوليكيّة، كما مُثِّلَتْ مختلفُ اللجان والقيادات لهذا المجلس.
بعد مقدّمة الأمين العام للمجلس الأب بولس جرس التي عرّف من خلالها بمجلس كنائس مصر، دعا الأمينُ العام شيخَ الأزهر المساهم في وضع “وثيقة الأخوّة الإنسانيّة“ للتحدُّثِ عنها وشرحِها.
إستهلّ الشيخ حديثهُ بعد كلمة الترحيب قائلاً بعفويّة، إنّه يتركُنفسه للجوّ المحيط باللقاء فتأتي الموضوعات التي يُمكنُ التحدّث فيها سويًّا أصدق إثرَ ذلك، وأعربَ عن اكتشافه وجودَ مجلسٍلكنائس مصر، وبأنّ لقاءَ علماء الأديان في ما بينهم هو خطوةٌأولى، فلا سلام للعالم من دون الأديان ولا سلام للدّين إلا بالسلام بين رجال الأديان، ووَصَفَها بكلمةٍ صادقةٍ استوحاها من التاريخ.
تحدّث عن مشكلة اليوم، ونعتها بالعدوّ المشترك، ألا وهي انحطاط الأخلاق والسعي لِتَفتيتِ مفهموم الأسرة، والتوافق على حقّ إجهاض المرأة، وغيرها… وكلّ ذلك لتدمير فكرة الإنسان والأسرة عمومًا. وصفها بالغيوم السوداء القادمة، بالأخطار التي تُحدّقُبنا، والتي بسببها بدأت سفينةُ الإنسانيّة تغرقُ بالفعل، فالقويّ يأكل الضعيف والغنيّ لا يشعر بالفقير الخ…
ومن هنا مسؤوليّة رجال الدّين أمام االله ومسؤوليّتهم لخدمة البشر. وأضاف بأنّ قداسة البابا رجلٌ حكيمٌ ولديه أفكارٌ جيّدةٌ جدًّا، وهو من القلائل الذين يتالّمون لألم الإنسان المعاصر ويدركون أنّ الإنسان الذي يبني علاقةً قويّةً مع الله يسلكُ سلوكًا حميدًا، وهذا السلوك الحميد يستندُ على الأخوّة بين الناس.
وصف المباحثات التي انبثقت منها “وثيقةُ الأخوّة الإنسانيّة” بأنّها ثمرةُ تعبٍ وجهدٍ وتفكيرٍ ومراجعاتٍ دامت سنةً كاملة إلى أن وُقّعت في فبراير الماضي من قداسة البابا ومنه، لكنّه تأسّف لعدم وجود صدًى لها في مصر. أمّا الأمم المتحدة فقد تَبَنَّتها، فالكلُّمتعطّش، والناسُ تبحث عن ضوءٍ يلمع، وإنْ في آخر النفق! وأطلع فضيلة الشيخ الحاضرين بأنّه قد شُكّلتْ لجنةٌ تنفيذيّةٌ يعملُ فيها شابّان مصريّان ليلَ نهار، وهما الأستاذ محمّد عبد السلام (في الإمارات) والأب يُوَنّس لحظي (في الفاتيكان)، حتّى تكونَ هذه الوثيقة لقاءً بين الشرق والغرب ولقاءَ أخوّةٍ للعالم أجمع.
“نريدُ أن نلحقَ بالسفينة ونُنْقِذَها“ هذا ما أكّده شيخ الأزهر،وقال “بأنّ الأزهر يباركُ أيّة خطوةٍ باتّجاه هذا الهدف النبيل“.
وبقلبٍ منفتحٍ أصغى للحاضرين وللإقتراحات العمليّة اللاحقة لهذا الإجتماع، وشجّع كلَّ أشكال التعاون في المحافظات وبين الشباب،وقال “علينا ألاّ نُصَدِّرَ أحلامًا للناس بل واقعًا نَبْنيه معًا“.
وبكلمته “ليس هناك أهمّ من هذا الإجتماع“، غادرنا القاعة وقد رافقتنا هذه العبارة مع الشعور الأكيد بأنّ المتابعة ضروريّة، وبأنّ ترجمتها على أرض الواقع هي من الأولويّات.
ريما السيقلي